Share |

August 21, 2009

فانوس عمو عدلى



من عادات طفولتى – المستمرة حتى الأن- ألا أشترى كل حاجتى من بائع واحد..فكنت اذا طلب منى أبويا أو أمى الذهاب للبقال لشراء (مثلا) جبنة وبيض وحلاوة ..أذهب لأشترى الجبنة من عم محمود والبيض من عم سعد والحلاوة من عم جمال.. وده عشان ألف شوية وعشان أقوى علاقتى بجميع بياعين الحتة...لذلك أنا أكره جدا سياسة "كل ماتريده تحت سقف واحد" التى تتبعها سلاسل الهايبر ماركت منذ بدأ "ايدج" و "سينسبرى"..مرورا ب"مترو" وصولا الى "كارفور" و "سباينيس" واذا اضطررت الى التعامل مع أحد هذه الأماكن فلابد أن أترك شيئا من احتياجاتى أشتريه من احد الباعة المحيطين بى

وكما أنه لكل قاعدة استثناء..فان استثناء تلك القاعدة عندى كان فى فانوس رمضان... فمنذ أول مرة صاحبت والدى وهو يشتريه لى من عمو عدلى وأنا مازلت حتى الأن أشترى فوانيس أطفالى وأطفال عائلتى و فانوس خطيبتى سابقا زوجتى حاليا من عم عدلى

وعمو عدلى هو رجل مسيحى طيب جدا..فى نهاية الستينات من عمره.. أتذكره عندما كان يجلس
فى بعض الأوقات مساء أمام باب محله مع بعض أصدقائه من ضمنهم والدى مرتديا البيريه اليونانى الشهير فاذا تصادف ومررت أمامهم فى ذهابى أو عودتى نادانى ليداعبنى بحنو ويدعو لى بالتوفيق...وعندما تقدمت السن بالجميع أصبح يجلس داخل محله الصغير لا يفارقه... حيث أدخل اليه عند زياراتى للحاج والحاجة لأسلم عليه وأطمئن على صحته
ولعمو عدلى فى رمضان طقوس خاصة حيث يعلق فانوسا زجاجيا كبيرا أمام باب محله ويضع ترابيزة صغيرة يملأها قبل أذان المغرب بعلب التمر ودوارق الخشاف أو التمر هندى لكى يفطر عليها من تصادف وجوده فى الشارع وقت الافطار .. فاذا مررت بجوارمحله نهارا تسمع الصوت الساحر للنقشبندى ينبعث من الكاسيت...وفى احدى المرات قلت له وأنا أحاول تغليف تعجبى بالمداعبة : والله ياعمو عدلى أنا حاسس انى مرة حالاقيك مشغل قرأن.... ولكنى ذهلت حين ضحك بهدوء ومد يده ليفتح أحد الأدراج ويخرج شريط كاسيت مسجل عليه سورة مريم بصوت الشيخ محمد رفعت غير أنه مال نحوى قائلا بصوت منخفض : باشغله بصوت واطى لما أبقى لوحدى

منذ عدة سنوات سألته أثاء أحداث وفاء قسطنطين ايه رأيك ياعمو عدلى فى الحدوتة دى؟
بص لى بحزن وسكت كتير وبعدين رد بجملة عمرى ما حانساها : صدقنى يابنى دى مش مصر اللى أعرفها.. أنا لو وفاء دى بنتى كنت خدتها ف حضنى وفردت لها سجادة الصلاة وأنا متأكد ان العدرا حاتباركنى والمسيح مش حايزعل منى...... مصر ابتدت تاكل ولادها
.
منذ عدة سنوات لاحظت أن تشكيلة الفوانيس التى أصبح يبيعها عمو عدلى مش كبيرة ومش فيها كل اللى فى السوق..وعرفت ان صحته مابقتش تساعده ينزل يشترى بنفسه وبقى يبعت ابنه ماجد
يشترى.. وطبعا ماجد مش فى نفس خبرة أبوه... ورغم كده فضلت أشترى من عنده رغم ان الحاج على صاحب أحد المحلات المجاورة اللى فتحت من كام سنة استوقفنى ناصحا وهو يتلاعب بحبات السبحة : ياباشمهندس انت ليه مصمم تنفع المسيحيين ؟ لو مش عاجبك اللى عندى اشترى من أى محل تانى تنفع بيه مسلم..... رديت عليه : يا حاج على..انت لو تعرف عمو عدلى من زمان ماكنتش تقول كده.. وسبته ومشيت و أنا بافتكر كلمة عمو عدلى "مصر ابتدت تاكل ولادها".

السنة دى عمو عدلى مش موجود..... عمو عدلى اتنيح من شهر فات........ وأنا حضرت القداس بتاعه...ماعرفتش أكتب عنه لأنى مش باعرف أعبر عن شعورى فى لحظته...بتجيلى كبسة تعبيرية فى لحظات الحزن الشديد والفرح الشديد

السنة دى عمو عدلى مش موجود...ومافيش فانوس كبير اتعلق... ومافيش فوانيس خالص بتتباع فى المحل...أبويا قاللى أصل ولاده متعصبين و بيقولوا حرام

السنة دى عمو عدلى مش موجود.... ومش حاسمع عنده النقشبندى...ومش حاشوف ضحكته الحنينة ..مش حامد ايدى أخد من عنده تمرة و أقول له أفطر عندكم الصائمون يا عمو

السنة دى عمو عدلى مش موجود... وأنا ما اشتريتش فوانيس ولادى ولا مراتى لغاية دلوقتى

غالبا مش حاشترى السنة دى

فانوس رمضان لازم يكون من ايد عمو عدلى.